سورة الجاثية - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الجاثية)


        


{وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)}
يذكر تعالى ما أنعم به على بني إسرائيل من إنزال الكتب عليهم وإرسال الرسل إليهم، وجعله الملك فيهم؛ ولهذا قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي: من المآكل والمشارب، {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي: في زمانهم.
{وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ} أي: حججا وبراهين وأدلة قاطعات، فقامت عليهم الحجج ثم اختلفوا بعد ذلك من بعد قيام الحجة، وإنما كان ذلك بغيا منهم على بعضهم بعضا، {إِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي: سيفصل بينهم بحكمه العدل. وهذا فيه تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم، وأن تقصد منهجهم؛ ولهذا قال: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا} أي: اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو، وأعرض عن المشركين، وقال هاهنا: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي: وماذا تغني عنهم ولايتهم لبعضهم بعضا، فإنهم لا يزيدونهم إلا خسارا ودمارا وهلاكا، {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}، وهو تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات.
ثم قال: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} يعني: القرآن {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}


{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23)}
يقول تعالى: لا يستوي المؤمنون والكافرون، كما قال: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20] وقال هاهنا: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} أي: عملوها وكسبوها {أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} أي: نساويهم بهم في الدنيا والآخرة! {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي: ساء ما ظنوا بنا وبعدلنا أن نُسَاوي بين الأبرار والفجار في الدار الآخرة، وفي هذه الدار.
قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا مُؤمَّل بن إهابَ، حدثنا بُكَير بن عثمان التَّنُوخِي، حدثنا الوَضِين بن عطاء، عن يزيد بن مَرْثَد الباجي، عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: إن الله بنى دينه على أربعة أركان، فمن صبر عليهن ولم يعمل بهن لقي الله وهو من الفاسقين. قيل: وما هن يا أبا ذر؟ قال: يسلم حلال الله لله، وحرام الله لله، وأمر الله لله، ونهي الله لله، لا يؤتمن عليهن إلا الله.
قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «كما أنه لا يجتنى من الشوك العنب، كذلك لا ينال الفجار منازل الأبرار».
هذا حديث غريب من هذا الوجه. وقد ذكر محمد بن إسحاق في كتاب السيرة أنهم وجدوا حجرا بمكة في أسِّ الكعبة مكتوب عليه: تعملون السيئات وترجون الحسنات؟ أجل كما يجتنى من الشوك العنب.
وقد روى الطبراني من حديث شعبة، عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي الضحى، عن مسروق، أن تميما الداري قام ليلة حتى أصبح يردد هذه الآية: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ ولهذا قال تعالى: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}، وقال {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ} أي: بالعدل، {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}.
ثم قال تعالى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} أي: إنما يأتمر بهواه، فمهما رآه حسنا فعله، ومهما رآه قبيحا تركه: وهذا قد يستدل به على المعتزلة في قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين.
وعن مالك فيما روي عنه من التفسير: لا يهوى شيئا إلا عبده.
وقوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} يحتمل قولين:
أحدها وأضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك. والآخر: وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه، وقيام الحجة عليه. والثاني يستلزم الأول، ولا ينعكس.
{وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} أي: فلا يسمع ما ينفعه، ولا يعي شيئا يهتدي به، ولا يرى حجة يستضيء بها؛ ولهذا قال: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} كقوله: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186].


{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26)}
يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا}.
أي: ما ثم إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون وما ثم معاد ولا قيامة وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد، ويقوله الفلاسفة الإلهيون منهم، وهم ينكرون البداءة والرجعة، ويقوله الفلاسفة الدهرية الدورية المنكرون للصانع المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه. وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول، ولهذا قالوا {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ} قال الله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} أي: يتوهمون ويتخيلون.
فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح، وأبو داود، والنسائي، من رواية سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب ليله ونهاره» وفي رواية: «لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر».
وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جدا فقال: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، وهو الذي يهلكنا، يميتنا ويحيينا، فقال الله في كتابه: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ}». قال: «ويسبون الدهر، فقال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار».
وكذا رواه ابن أبي حاتم، عن أحمد بن منصور، عن شُرَيْح بن النعمان، عن ابن عيينة مثله: ثم روي عن يونس، عن ابن وهب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: يسب ابن آدم الدهر، وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار».
وأخرجه صاحبا الصحيح والنسائي، من حديث يونس بن زيد، به.
وقال محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله: استقرضت عبدي فلم يعطني، وسَبّنِي عبدي، يقول: وادهراه. وأنا الدهر».
قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله، عليه الصلاة والسلام: «لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر»: كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة، قالوا: يا خيبة الدهر. فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله عز وجل فكأنهم إنما سبوا، الله عز وجل؛ لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلهذا نُهي عن سب الدهر بهذا الاعتبار؛ لأن الله هو الدهر الذي يعنونه، ويسندون إليه تلك الأفعال.
هذا أحسن ما قيل في تفسيره، وهو المراد، والله أعلم. وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى، أخذا من هذا الحديث.
وقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي: إذا استدل عليهم وبين لهم الحق، وأن الله قادر على إعادة الأبدان بعد فنائها وتفرقها، {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي: أحيوهم إن كان ما تقولونه حقا.
قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ} أي: كما تشاهدون ذلك يخرجكم من العدم إلى الوجود، {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] أي: الذي قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى.. {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم 27]، {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} أي: إنما يجمعكم ليوم القيامة لا يعيدكم في الدنيا حتى تقولوا: {ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} [التغابن: 9] {لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ. لِيَوْمِ الْفَصْلِ} [المرسلات: 12، 13]، {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ} [هود: 104] وقال هاهنا: {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} أي: لا شك فيه، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي: فلهذا ينكرون المعاد، ويستبعدون قيام الأجساد، قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 6، 7] أي: يرون وقوعه بعيدا، والمؤمنون يرون ذلك سهلا قريبا.

1 | 2 | 3